محافظات-سانا
في زوايا المدن التي أنهكتها الحرب، وبين الأبنية التي ما زالت تحمل آثار الدمار، تنبت اليوم حدائق صغيرة لا تُروى بالماء فقط، بل بالأمل، إنها ليست مجرد مساحات خضراء، بل رسائل صامتة من مواطنين قرروا أن يزرعوا الحياة في وجه الغياب، وأن يعيدوا تعريف الإعمار بعيداً عن الإسمنت والحديد، عبر بذور تُغرس في الأرض وتُسقى بالإرادة.
من الركام إلى الزهر: مبادرات شعبية تُعيد الحياة للأحياء المنكوبة في محافظة حمص، وعلى أطراف حي البياضة الذي شهد سنوات من التهجير والدمار، بدأت مجموعة من الشباب بزراعة أشجار الزيتون والورد في ساحة مهملة كانت تُستخدم كمكب نفايات، المبادرة لم تكن مدعومة من جهة رسمية، بل انطلقت من رغبة داخلية في إعادة الروح إلى المكان، يقول أحمد، أحد المشاركين في المبادرة: “ما بدنا نرجع نعيش بين الركام، زرعنا ورد حتى نرجّع الروح للحي”، هذه الجملة، رغم بساطتها، تختصر فلسفة كاملة: بأن الزراعة ليست فقط فعلاً بيئياً، بل مقاومة ناعمة ضد القبح، وضد النسيان.
وفي درعا، أعادت مجموعة من النساء تأهيل حديقة مدرسة ابتدائية، مستخدمةً أدوات بسيطة وتبرعات محلية، المبادرة لم تكن فقط لتحسين المنظر، بل لتوفير مساحة آمنة للأطفال للعب بعيداً عن الشوارع، في ظل غياب الحدائق العامة المجهزة، إحدى المشاركات، وهي أم لثلاثة أطفال، قالت: “ما في مكان نلعب فيه، فقلنا نزرع الحديقة وننظفها، حتى أولادنا يحسوا إنو في شيء حلو حوالينا”، هذه الكلمات تعكس كيف تتحول الحاجة إلى فعل جماعي، وكيف يمكن للأمهات أن يكنّ رائدات في إعادة بناء المجتمع من جذوره.
ما يميز هذه المبادرات أنها لا تنتظر قراراً مركزياً أو تمويلاً خارجياً، بل تنبع من الناس أنفسهم، من شعورهم بأنهم يستحقون بيئة أفضل، وأنهم قادرون على خلقها بأيديهم.
كيف تُصبح الوردة رمزًا للأمل والتجدد؟
في ريف حلب، وثّق أحد المصورين مشهداً لطفل يحمل بيده شتلة صغيرة، يبتسم وهو يغرسها في الأرض، الصورة التي انتشرت على وسائل التواصل، أصبحت رمزاً لمرحلة جديدة عنوانها: “نحن هنا، ونزرع لنعيش”، لم يكن الطفل يعرف أنه يُشارك في فعل رمزي كبير، لكنه كان يشعر أن ما يفعله مهم، وأنه يُضيف شيئاً جميلاً إلى المكان الذي يسكنه.
من الناحية النفسية، تُظهر الدراسات أن المساحات الخضراء تُسهم في تخفيف التوتر وتحسين المزاج، وخاصة في البيئات التي عانت من العنف أو النزوح، لذلك فإن هذه المبادرات لا تُحسن المشهد العام فقط، بل تُعيد التوازن النفسي للسكان، وتمنحهم شعوراً بالسيطرة على حياتهم، ولو جزئياً، كما أن العمل الجماعي في الزراعة يُعزز الروابط الاجتماعية، ويُعيد بناء الثقة بين الجيران، بعد سنوات من الانقسام والخوف.
هذه القصص تحمل في طياتها رسائل عميقة، إنها تُظهر أن الإعمار لا يبدأ من المشاريع الضخمة، بل من التفاصيل الصغيرة: من وردة تُزرع في حديقة، من شجرة تُغرس أمام مدرسة، من طفل يبتسم وهو يسقي نباتاً، إنها دعوة لإعادة النظر في مفهوم التنمية، ولمنح المجتمعات المحلية مساحة أكبر للمبادرة، والتعبير عن احتياجاتها بطريقتها الخاصة.
من المهم أن تُدعم هذه المبادرات، ليس فقط مادياً، بل معنوياً وإعلامياً، يمكن للبلديات أن تُخصص مساحات للزراعة المجتمعية، ويمكن للمدارس أن تُشجع الطلاب على المشاركة في تنظيف وزراعة حدائقهم، كما يمكن للجهات الإعلامية، أن تُسلط الضوء على هذه النماذج، وتُحولها إلى قصص ملهمة تُحفز الآخرين على التكرار والتوسع.
في زمن الأخبار الثقيلة، يبرز هذا النوع من التقارير كنافذة مشرقة تُظهر كيف يمكن للأمل أن ينبت من تحت الرماد، إنها قصة شعب يزرع الحياة، لا ليُجمّل المشهد فقط، بل ليؤكد أن المستقبل يُبنى بشجرة، بوردة، وبيدٍ لا تزال تؤمن بالغد، وبينما تُكتب التقارير عن الأزمات، يبقى هذا النوع من السرد ضرورة، لأنه يُعيد التوازن، ويُذكّرنا بأن الإنسان، في جوهره، لا يتوقف عن الحلم.