ريف دمشق-سانا
في زوايا البيوت السورية، حيث يتقاطع الصبر مع الشغف، وحيث تتوارى الآمال خلف ستائر المعاناة اليومية، تنبعث اليوم طاقة اقتصادية جديدة، غير رسمية، غير تقليدية، لكنها حقيقية وعميقة، إنه الاقتصاد المنزلي، الذي تحوّل من مجرد مبادرات فردية إلى نواة لاقتصاد ناشئ، يتشكّل بصمت داخل المنازل، لكنه يترك أثرًا محسوساً على السوق والمجتمع.
من الهواية إلى المورد… حكايات إنتاجية بدأت بـ”الضروري”
على مرّ السنوات الأخيرة، ومع تفاقم التحديات المعيشية والبطالة، لجأ عدد متزايد من السوريين إلى استثمار مهاراتهم اليدوية وخبراتهم التراثية، وتحويل مساحات من بيوتهم إلى ورشات عمل صغيرة. فتجد من يحضر المونة المنزلية بكفاءة، ومن يصنع الصابون أو مستحضرات التجميل، أو من يبدع بالخياطة والتطريز اليدوي، ثم يسوّقها عبر مواقع التواصل أو ضمن مجموعات محلية، مستفيداً من شبكات الدعم المجتمعي.
ويقول “أبو محمد”، أحد المشاركين في معرض الأسر المنتجة: إن زوجته بدأت تحضير مواد غذائية منزلية وبيعها للأقارب والجيران، وبعد أقل من عام أصبحت تُرسل منتجاتها إلى محافظات أخرى بفضل ترويجها عبر الإنترنت، “الدخل ليس ثابتاً لكنه يفوق أحياناً راتب موظف حكومي”، يضيف بابتسامة يملؤها الفخر.
اقتصاد منزلي… صناعة مقاومة لليأس
تُعلّق الباحثة الاجتماعية الدكتورة سحر خياط على الظاهرة بقولها: “ما يجري اليوم ليس مجرد محاولات شخصية للصمود، بل هو شكل جديد من أشكال التنظيم الاجتماعي والاقتصادي، يعكس قدرة الفرد على الخلق والتكيّف”، مؤكدةً ضرورة دمج الاقتصاد المنزلي ضمن السياسات الاقتصادية الرسمية، واعتباره ركيزة شعبية للتنمية المتوازنة.
وتشير إلى أن هذه الأنشطة توفر فرصاً للأشخاص غير القادرين على الانخراط في سوق العمل التقليدي، ولا سيّما النساء وكبار السن، وتمنحهم دوراً إنتاجياً فعّالاً دون مغادرة عتبة المنزل.
أرقام تخرج من الظل.. 22 % من الأسر تعتمد على دخل منزلي
بيانات أولية تشير إلى أن نحو 22% من الأسر السورية تعتمد جزئياً أو كلياً على دخل ناتج عن نشاط منزلي، مثل الإنتاج الغذائي أو الحرف اليدوية أو حتى خدمات التدريس والترجمة عبر الإنترنت. وهذا الرقم، كما تقول الباحثة الاقتصادية رنا يوسف، يُعدّ مؤشراً اجتماعياً واقتصادياً بالغ الأهمية، “فهو يكشف عن تحوّل في أنماط العمل التقليدية ويستدعي إعادة النظر في مفهوم البطالة المقنّعة”.
وترى أن الاعتراف الرسمي بهذا القطاع ودمجه في الرؤية الاقتصادية الوطنية يمكن أن يُسهم ليس فقط في خلق فرص عمل، بل في تعزيز ثقافة الإنتاج والمبادرة الذاتية، وتحقيق الأمن الغذائي على نطاق العائلات المحلية.
ختاماً: الاقتصاد المنزلي السوري لا يحمل طابعاً طارئاً، بل يُظهر مؤشرات على تحوّله إلى قطاع إنتاجي بديل له قدرة على الاستمرارية والتوسع، في صمت البيوت، يولد الإبداع، وتُصاغ الاستجابات الذكية للأزمات، وفي كل منتج منزلي يُباع، هناك قصة عائلة اختارت أن تقاوم بالعمل لا بالشكوى.